كُشف في الأسبوع الماضي عن فيروس شلل الأطفال في عيّنات أُخذت من مياه الصرف الصحّي في غزّة، وهو تطور مثير للذعر ولكنه غير مفاجئ في ضوء الوضع المفكّك للنظم الصحّية في القطاع بعد مضي تسعة أشهر على رحى الحرب الدائرة فيه بلا هوادة. وقد قُتل في مختلف أنحاء غزّة أكثر من 000 38 شخص وجرح 000 89 شخص آخرين وهناك أكثر من 000 10 شخص هم في عداد المفقودين. وما عادت معظم المستشفيات قادرة على العمل في غزّة، التي تنتشر فعلاً في كل أنحائها أمراض الإسهال والتهابات الجهاز التنفسي والتهاب الكبد A، من بين أمراض أخرى. ويعاني جميع سكان غزّة تقريباً من انعدام الأمن الغذائي الحاد والجوع الكارثي، كما يقاسي آلاف الأطفال ويلات سوء التغذية، مما يجعلهم أكثر عرضة أيضاً للإصابة بالأمراض.
ويعيش أكثر من مليوني شخص من سكان غزّة في منطقة مساحتها 80 كيلومتراً في 20 كيلومتراً، والتي زادت فيها أيضاً معدّلات تركز السكان بسبب محدودية إتاحة المياه النظيفة والمأمونة وتدهور ظروف الإصحاح. وقد انتقل منذ أوائل أيار/ مايو مليون شخص تقريباً من سكان غزّة من رفح إلى خان يونس ودير البلح اللتين كُشف فيهما عن عيّنات شلل الأطفال.
ورغم عدم تسجيل أية حالات إصابة بشلل الأطفال حتى الآن، فإن المسألة هي مسألة وقت ليس إلا قبل أن يطال المرض آلاف الأطفال غير المحميين، إن لم تُتخذ إجراءات فورية بصدده. فالأطفال دون سن الخامسة معرضون للخطر، وخاصة الرضع دون سن الثانية لأن الكثيرين منهم لم يُلقّحوا خلال الأشهر التسعة من الصراع.
ولهذا السبب تقوم منظّمة الصحّة العالميّة بإرسال أكثر من مليون جرعة من لقاح شلل الأطفال إلى غزّة، والتي ستُعطى للأطفال في الأسابيع المقبلة لوقايتهم من الإصابة بالمرض. ولكن حصاد أرواح الناس سيستمر بسبب الأمراض التي يمكن الوقاية منها والإصابات التي يمكن علاجها إن لم يُتوصّل إلى وقف فوري لإطلاق النار وسُرّعت بشكل كبير وتيرة إيصال المساعدات الإنسانية، بما يشمل شنّ حملة تلقيح محدّدة الأهداف تركز على صغار الأطفال.
وقد رأينا مراراً وتكراراً شلل الأطفال وهو يغزو أماكن ابتُليت بالصراع وانعدام الاستقرار. ففي عام 2017، تسبب اندلاع فاشية فيروس شلل الأطفال المتحوّر في سوريا التي مزقتها الحرب - وهو شكل متحوّر من فيروس شلل الأطفال البرّي الذي يمكن أن ينتشر بين فئات السكان المنقوصة التمنيع - إلى إصابة 74 طفلاً بالشلل. وفيما يخص وضع الصومال اليوم، فقد أسفرت الحرب الأهلية التي دامت فيه عقداً من الزمان عن انتقال سلسلة مستمرة من موجات شلل الأطفال المتحوّر الأطول في العالم والتي ما زالت دائرة فيه منذ عام 2017. أمّا بالنسبة لأفغانستان وباكستان، وهما آخر بلدان يُصاب فيهما الأطفال بشلل الأطفال الناجم عن فيروس شلل الأطفال البرّي، فقد حالت الأزمات الإنسانية وانعدام الأمن باستمرار دون تمكّن العالم من القضاء على الفيروس إلى الأبد في هذين البلدين.
ويواجه الآن الأطفال المحاصرون في غزّة هذا التهديد نفسه وما عاد هناك مكان آمن يلجأون إليه منه. وقد كانت معدّلات التغطية بالتلقيح ضد المرض قبل الصراع بنسبة 99 في المائة. أمّا الآن، فقد انخفضت هذه المعدّلات إلى 86 في المائة، وهو أمر خطير لأن يسبب تشكيل جيوب من الأطفال غير الملقحين تمكّن الفيروس من الدوران بينهم. وقد حال تدمير النظام الصحّي وانعدام الأمن وتدمير البنية التحتية وتشريد السكان الجماعي ونقص الإمدادات الطبّية دون حصول الأطفال على العديد من اللقاحات المنقذة للأرواح.
وهناك 16 مستشفى عامل فقط من أصل 36 مستشفى في غزّة – والتي تقدم الخدمات بمعدّلات متدنية – ويقل كذلك عدد مرافق الرعاية الصحّية الأولية العاملة فيها عن النصف. كما دُمرت في الوقت نفسه نسبة 70٪ من جميع مضخات الصرف الصحّي في غزّة ولا توجد محطة واحدة عاملة لمعالجة مياه الصرف الصحّي في القطاع، وهي ظروف تشكل مرتعاً خصباً ومثالياً لانتشار المرض.
وفي خضم هذا السياق المأساوي، يخاطر العاملون الصحّيون بحياتهم لرعاية الناس – ابتداءً من العمل بدون كهرباء وانتهاءً باختبار العيّنات المأخوذة من مياه الصرف الصحّي بحثاً عن الأمراض الفتاكة. وما حقيقة الكشف عن شلل الأطفال في غزّة قبل اندلاع فاشية واسعة النطاق من شلل الأطفال المُقعِد إلا شهادة على هذه الجهود المذهلة المبذولة في ظل التقويض الجسيم الذي الحقه انعدام الأمن بقدرات نظام ترصد المرض.
وخلال أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، حرصت المبادرة العالميّة لاستئصال شلل الأطفال، المؤلفة من منظّمة الروتاري الدولية؛ والمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها؛ ومنظّمة الصحّة العالميّة؛ ومنظّمة الأمم المتّحدة للطفولة (اليونيسف)؛ وتحالف غافي للقاحات؛ ومؤسسة بيل وميليندا غيتس، على تزويد السلطات الصحّية بجميع أنحاء العالم بالدعم اللازم لبناء وصون نظم معنية بترصد المرض وقادرة على الصمود وكشف الفيروس، جنباً إلى جنب مع سائر التهديدات الصحّية الناشئة، بصرف النظر عن الظروف السائدة.
وقد ساعدت هذه النظم على تحديد فاشية فيروس شلل الأطفال المتحوّر المندلعة خلال عام 2017 ووقفها في سوريا عقب شن مجموعة من حملات تلقيح الأطفال من منزل إلى آخر. كما كشفت أنشطة الترصد المُضطلع بها خلال العام الماضي في أوكرانيا عن فاشية من فيروس شلل الأطفال المتحوّر في ظل الحرب المستمرة التي يشهدها البلد، وأُصيب بسببها طفلان بالشلل قبل التمكّن من وقف الفيروس بفضل توجيه استجابة سريعة في مجال التلقيح.
ونظراً لمواجهة هذه المخاطر الكبيرة والمصاعب الشاقة، فإن من مسؤولية المجتمع الدولي عدم ترك أي أحد يتخلف عن الركب وإعطاء الأولوية للصحّة والعافية. وهذا الأمر هو ليس بالأمر غير المسبوق - فانطلاقاً من الحرب الأهلية التي نشبت في السلفادور خلال ثمانينيات القرن الماضي ومروراً بالصراع الذي دار في منطقة دارفور من السودان في أوائل عام 2000 من القرن الماضي، فقد جرى التفاوض على حالات وقف إطلاق النار التي سُمّيت "بأيام التهدئة" لوقف دوران رحى الحروب في المقام الأول وضمان إيصال اللقاحات المنقذة للأرواح إلى المجتمعات المحاصرة في المناطق المتأثرة بالصراع والتي يتعذر الوصول إليها.
واليوم، يعد الكشف عن شلل الأطفال في غزّة تذكيراً واقعياً آخر بالظروف القاسية التي يواجهها الناس. ولن يتسبب استمرار الصراع في زيادة عدد القتلى على أرض القطاع فحسب، بل سيعيق الجهود الرامية إلى تحديد التهديدات الصحّية التي يمكن الوقاية منها والاستجابة لها، مثل شلل الأطفال. ورغم الاستمرار حالياً في بذل جهود فورية رامية إلى إيصال لقاحات شلل الأطفال إلى جميع الأطفال، فإن وقف إطلاق النار والسماح بوصول المساعدات بحرية هما بالتالي السبيلان الوحيدان الحاسمان لحماية الناس والوقاية من اندلاع فاشيات تفجر الوضع في القطاع.
وما زال العالم يراقب الوضع، ولكن السؤال المهم هو متى سيتخذ ما يلزم من إجراءات؟